الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحه: قال الله تعالى: قال قتادة والضحاك وغيرهما:إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم،ونحن أوْلى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى باللّه ـ تعالى ـ منكم، ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التى كانت قبله، فأنزل اللّه تعالى: وروى سفيان عن الأعمش،عن أبي الضُّحَي، عن مسروق، قال:لما نزلت هذه الآية: وقد روى عن مجاهد قال: قالت قريش:لا نبعث أو لا نحاسب، وقال أهل الكتاب: وأيضاً، فإنه قد استفاض من وجوه متعددة أنه لما نزل قوله تعالى: وأيضاً، قوله بعد هذا: وأيضاً، فما قبلها وما بعدها خطاب مع المؤمنين وجواب لهم فكان المخاطب فى هذه الآية هو المخاطب فى بقية الآيات. فإن قيل: الآية نص فى نفي دين أحسن من دين هذا المسلم، لكن من أين أنه ليس دين مثله؟ فإن الأقسام ثلاثة: إما أن يكون ثَمَّ دين أحسن منه، أو دونه، أو مثله، وقد ثبت أنه لا أحسن منه، فمن أين فى الآية أنه لا دين مثله؟ ونظيرها قوله: قيل: لو قلنا فى هذا المقام: إن الآية لم تدل إلا على نفي الأحسن لم يضر هذا؛ فإن الخطاب له مقامات، قد يكون الخطاب تارة بإثبات صلاح الدين، إذا كان المخاطب يدعى أو يظن فساده، ثم في مقام بأن يقع النزاع فى التفاضل، فيبين أن غيره ليس أفضل منه، ثم فى مقام ثالث يبين أنه أفضل من غيره، وهكذا إذا تكلمنا فى أمر الرسول، ففي مقام نبين صدقه وصحة رسالته، وفى مقام بأن نبين أن غيره ليس أفضل منه، وفى مقام ثالث نبين أنه سيد ولد آدم، وذلك أن الكلام يتنوع بحسب حال المخاطب. ثم نقول: يدل على أن هذا الدين أحسن وجوه: أحدها: أن هذه الصيغة، وإن كانت فى أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل، فإنه كثيراً ما يضمر بعرف الخطاب، يفضل المذكور المجرور بمن مفضلا عليه فى الإثبات، فإنك إذا قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلا عليه، والأول مفضلا فإذا قلت: لا أحسن من هذا، أو: من أحسن من هذا؟ أو ليس فيهم أفضل من هذا، أو: ما عندي أعلم من زيد، أو: ما فى القوم أصدق من عمرو، أو: ما فيهم خير منه، فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم، بل قد صارت حقيقة عرفية فى نفي فضل الداخل في أفعل، وتفضيل المجرور على الباقين، وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم، وضمنت معنى الاستثناء، كأنك قلت: ما فيهم أفضل إلا هذا، أو ما فيهم المفضل إلا هذا، كما أن [إن] إذا كفت بما النافية صارت متضمنة للنفي والإثبات. وكذلك الاستثناء، وإن كان فى الأصل للإخراج من الحكم؛ فإنه صار حقيقة عرفية فى مناقضة المستثنى منه، فالاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع. وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة، ويكون فى تركيب الكلام أخرى، ويكون فى الجمل المنقولة كالأمثال السائرة جملة، فيتغير الاسم المفرد بعرف الاستعمال عما كان عليه فى الأصل، إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل؛ كلفظ الدابة والغائط والرأس. ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره، كما فى زيادة حرف النفي فى الجمل السلبية، وزيادة النفي فى كاد، وبنقل الجملة عن معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها، كما فى قولهم: (يَدَاك أوْكَتَا وفُوكَ نَفَخ)[ سبق التعليق على المثل. انظر: الجزء الثانى عشر] و (عسى الغُوَيْرُ أبْؤُسَا) [فى المطبوعة: بؤسا ـ والصواب ما أثبتناه] [سبق التعليق على المثل. انظر: الجزء الثانى عشر] . الوجه الثاني: أنه إذا كان لا دين أحسن من هذا، فالغير إما أن يكون مثله أو دونه، ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن الدين إذا ماثل الدين وساواه فى جميع الوجوه كان هو إياه، وإن تعدد الغير لكن النوع واحد فلا يجوز أن يقع التماثل والتساوي بين الدينين المختلفين، فإن اختلافهما يمنع تماثلهما؛إذ الاختلاف ضد التماثل، فكيف يكونان مختلفين متماثلين؟ واختلافهما اختلاف تضاد لا تنوع؛ فإن أحد الدينين يعتقد فيه أمور على أنها حق واجب، والآخر يقول: إنها باطل محرم، فمن المحال استواء هذين الاعتقادين. وكذلك الاقتصادان؛ فإن هذا يقصد المعبود بأنواع من المقاصد والأعمال، والآخر يقصده بما يضاد ذلك وينافيه، وليس كذلك تنوع طرق المسلمين ومذاهبهم؛ فإن دينهم واحد، كل منهم يعتقد ما يعتقده الآخر، ويعبده بالدين الذى يعبده ويسوغ أحدهما للآخر أن يعمل بما تنازع فيه من الفروع فلم يختلفا، بل نقول: أبلغ من هذا أن القدر الذى يتنازع فيه المسلمون من الفروع لابد أن يكون أحدهما أحسن عند اللّه فإن هذا مذهب جمهور الفقهاء الموافقين لسلف الأمة على أن المصيب عند اللّه واحد فى جميع المسائل، فذاك الصواب هو أحسن عند اللّه، وإن كان أحدهما يقر الآخر، فالإقرار عليه لا يمنع أن يكون مفضولا مرجوحا، وإنما يمنع أن يكون محرما. وإذا كان هذا فى دق الفروع فما الظن بما تنازعوا فيه من الأصول؟ فإنه لا خلاف بين المسلمين ولا بين العقلاء أن المصيب فى نفس الأمر واحد، وإنما تنازعوا فى المخطئ هل يغفر له أو لا يغفر، وهل يكون مصيباً بمعنى أداء الواجب، وسقوط اللوم لا بمعنى صحة الاعتقاد؟ فإن هذا لا يقوله عاقل؛أن الاعتقادين المتناقضين من كل وجه يكون كل منهما صوابا. فتلخيص الأمر: أن هذا المقام إنما فيه تفضيل قول وعمل على قول وعمل، فالأقوال والأعمال المختلفة لابد فيها من تفضيل بعضها على بعض عند جمهور الأمة، بل ومن قال بأن كل مجتهد مصيب قد لا ينازع أن أحدهما أحسن وأصوب، ولا يدعى تماثلهما. وإن ادعاه فلم يدعه إلا فى دق الفروع، مع أن قوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف. وأما الحِلّ فلم يدع مدع تساوي الأقسام فيه، وهذا بخلاف التنوع المحض، مثل قراءة سورة وقراءة سورة أخرى، وصدقة بنوع وصدقة بنوع آخر، فإن هذا قد يتماثل؛ لأن الدين واحد في ذلك من كل وجه، وإنما كلامنا فى الأديان المختلفة، وليس هنا خلاف بحال. وإذا ثبت أن الدينين المختلفين لا يمكن تماثلهما، لم يحتج إلى نفى هذا فى اللفظ؛ لانتفائه بالعقل، وكذلك لما سمعوا قوله: هذا، مع أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة شاهدة بتفضيل النبيين على بعض، وبعض الرسل على بعض، قاضية لأولى العزم بالرجحان، شاهدة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على ربه،لكن تفضيل الدين الحق أمر لابد من اعتقاده؛ ولهذا ذكره اللّه فى الآية. وأما تفضيل الأشخاص، فقد لا يحتاج إليه فى كل وقت، فالدين الواجب لابد من تفضيله؛ إذ الفضل يدخل فى الوجوب، وإذا وجب الدين به دون خلافه فلأن يجب اعتقاد فضله أولى. وأما الدين المستحب؛ فقد لا يشرع اعتقاد فعله إلا فى حق من شرع له فعل ذلك المستحب. وإلا فمن الناس من يضره إذا سلك سبيلا من سبل السلام الإسلامية أن يرى غيره أفضل منها؛ لأنه يتشوف إلى الأفضل فلا يقدر عليه والمفضول يعرض عنه. وكما أنه ليس من مصلحته أن يعرف أفضل من طريقته إذا كان بترك طريقته، ولا يسلك تلك، فليس أيضاً من الحق أن يعتقد أن طريقته أفضل من غيرها، بل مصلحته أن يسلك تلك الطريقة المفضية به إلى رحمة اللّه ـ تعالى ـ فإن بعض المتفقهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم، وقد يكونون مخطئين فلا سلك الأول ولا الثانى. وبعض المتصوفة: المريد يعتقد أن شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض، وطريقته أفضل الطرق، كلاهما انحراف، بل يؤمر كل رجل أن يأتى من طاعة اللّه ورسوله بما استطاعه، ولا ينقل من طاعة الله ورسوله بطريقته، وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ، ولا يبين له نقصها إلا إذا نقل إلى ما هو أفضل منها، وإلا فقد ينفر قلبه عن الأولى بالكلية حتى يترك الحق الذى لا يجوز تركه، ولا يتمسك بشىء آخر،وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استقصاؤه، وهو مبني على أربعة أصول: أحدها: معرفة مراتب الحق والباطل، والحسنات والسيئات، والخير والشر؛ ليعرف خير الخيرين وشر الشرين. الثاني: معرفة ما يجب من ذلك ومالا يجب، وما يستحب من ذلك وما لا يستحب. الثالث: معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز، وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطاً بإمكان العلم والقدرة. الرابع: معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم؛ ليؤمر كل شخص بما يصلحه، أو بما هو الأصلح له من طاعة اللّه ورسوله، وينهي عما ينفع نهيه عنه، ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهى عنه مع الاستغناء عنه. وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية ـ من أن دين من أسلم وجهه للّه وهو محسن، واتبع ملة إبراهيم، هو أحسن الأديان، أمر متفق عليه بين المسلمين ـ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، بل من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين. ولكن كتاب الله هو حاكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه، ومبين وجه الحكم؛ فإنه بين بهذه الآية وجه التفضيل بقوله: الوجه الثالث: أن النزاع كان بين الأمتين، أيّ الدينين أفضل؟ فلم يقل لهما: إن الدينين سواء، ولا نهوا عن تفضيل أحدهما؛ ولكن حسمت مادة الفخر والخيلاء والغرور الذي يحصل من تفضيل أحد الدينين؛ فإن الإنسان إذا استشعر فضل نفسه أو فضل دينه يدعوه ذلك إلى الكِبْر والخيلاء والفخر، فقيل للجميع: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) سواء كان دينه فاضلا أو مفضولا؛ فإن النهي عن السيئات والجزاء عليها واقع لا محالة، قال تعالى: فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغنى عنهم فضل دينهم،وفسر لهم النبى صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون فى الدنيا بالمصائب، بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله: ومما يشبه هذا من بعض الوجوه: نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغَضّ منه، كما قال صلى الله عليه وسلم:(لا تفضلوا بين الأنبياء)، وقال (لا تفضلونى على موسى) بيان لفضله، وبهذين يتم الدين. فإذا كان اللّه هو المعبود، وصاحبه قد أخلص له وانقاد، وعمله فعل الحسنات، فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا، بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له، أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه، بل يتكبر كاليهود، ويشرك كالنصارى، أو لم يكن محسناً بل فاعلا للسيئات دون الحسنات، وهذا الحكم عدل محض، وقياس وقسط، دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه. وهكذا غالبا ما بينه القرآن، فإنه يبين الحق والصدق، ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر، كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة، أن دلالته سمعية خبرية، وأنها واجبة لصدق المخبر، بل دلالته ـ أيضاً ـ عقلية برهانية، وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان، لمن كان له فهم وعقل، بحيث إذا أخذ ما فى القرآن من ذلك،وبين لمن لم يعلم أنه كلام اللّه أو لم يعلم صدق الرسول، أو يظن فيه [ظنا] مجرداً عما يجب من قبول قول المخبر ـ كان فيه ما يبين صدقه وحقه، ويبرهن على صحته.
وَقاَل شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه اللّه تعالى : فى قوله تعالى: أَنفُسَكُمْ} وإذا كان اختيان النفس هو ظلمها أو ارتكاب ما حرم عليها، كان كل مذنب مختاناً لنفسه، وإن جهر بالذنوب، وكان كفر الكافرين وقتالهم للأنبياء وللمؤمنين اختياناً لأنفسهم، وكذلك قطع الطريق والمحاربة، وكذلك الظلم الظاهر، وكان ما فعله قوم نوح وهود، وصالح وشعيب اختياناً لأنفسهم. ومعلوم أن هذا اللفظ لم يستعمل فى هذه المعاني كلها، وإنما استعمل فى خاص من الذنوب مما يفعل سراً، وحتى قال ابن عباس في قوله وقد قيل: إن الجماع ليلة الصيام كانوا منهيين عنه مطلقاً، بخلاف الأكل، فإنه كان مباحاً قبل النوم، وقد روى أن عمر جامع امرأته بعد العشاء قبل النوم، وأنه لما فعل أخذ يلوم نفسه، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، أعتذر إلى اللّه من نفسي هذه الخائنة، إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة، فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (ما كنت جديراً بذلك يا عمر)، وجاء طائفة من الصحابة فذكروا مثل ذلك فأنزل اللّه هذه الآية . فهذا فيه أن نفسه الخاطئة سولت له ذلك، ودعته إليه، وأنه أخذ يلومها بعد الفعل، فالنفس هنا هي الخائنة الظالمة، والإنسان تدعوه نفسه فى السر إذا لم يره أحد إلى أفعال لا تدعو إليها علانية، وعقله ينهاه عن تلك الأفعال، ونفسه تغلبه عليها. ولفظ الخيانة حيث استعمل لا يستعمل إلا فيما خفي عن المخون، كالذي يخون أمانته، فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده، ولو شاهده لما خانه، قال تعالى: وقال النبى صلى الله عليه وسلم لما قام:(أما فيكم رجل يقوم إلى هذا فيضرب عنقه؟) فقال له رجل: هلا أومضت إلي؟ فقال: (ما ينبغي لنبى أن تكون له خائنة الأعين)، قال تعالى: وإذا كان كذلك، فالإنسان كيف يخون نفسه، وهو لا يكتمها ما يقوله ويفعله سراً عنها، كما يخون من لا يشهده من الناس، كما يخون الله والرسول إذا لم يشاهده، فلا يكون ممن يخاف اللّه بالغيب؟ ولم خصت هذه الأفعال بأنها خيانة للنفس دون غيرها؟ فالأشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون قوله: والبصريون يقولون فى مثل هذا: إنه منصوب على أنه مفعول له، ويخرجون قوله: {سّفٌهّ} عن معناه فى اللغة، فإنه فعل لازم، فيحتاجون أن ينقلوه من اللزوم إلى التعدية بلا حجة. وأما الكوفيون ـ كالفراء وغيره ومن تبعهم، فعندهم أن هذا منصوب على التمييز، وعندهم أن المميز قد يكون معرفة كما يكون نكرة، وذكروا لذلك شواهد كثيرة من كلام العرب، مثل قولهم: ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره. وكان الأصل: سفهت نفسه،ورشد أمره. ومنه قولهم: غبن رأيه، وبطرت نفسه، فقوله تعالى: وهذا الذى قاله الكوفيون أصح فى اللغة والمعنى؛ فإن الإنسان هو السفيه نفسه، كما قال تعالى: فهؤلاء اجتهدوا فى كتمان سرقة السارق، ورمى غيره بالسرقة، كما قال تعالى: وكذلك الذين كانوا يجامعون بالليل، وهم يجتهدون فى أن ذلك لا يظهر عنهم حين يفعلونه، وإن أظهروه فيما بعد عند التوبة، أما عند الفعل فكانوا يحتاجون من ستر ذلك وإخفائه ما لا يحتاج إليه الخائن وحده، أو يكون قوله: والُمجَامِع، إن كان جامع امرأته وهى لا تعلم أنه حرام فقد خانها، والأول أشبه. والصيام مبناه على الأمانة؛ فإن الصائم يمكنه الفطر ولا يدرى به أحد، فإذا أفطر سراً فقد خان أمانته، والفطر بالجماع المستور خيانة، كما أن أخذ المال سراً وإخبار الرسول والمظلوم ببراءة السقيم وسقم البرىء خيانة، فهذا كله خيانة، والنفس هى التى خانت؛ فإنها تحب الشهوة والمال والرئاسة، وخان واختان مثل كسب واكتسب، فجعل الإنسان مختاناً. ثم بين أن نفسه هى التى تختان، كما أنها هى التى تضر؛ لأن مبدأ ذلك من شهوتها، ليس هو مما يأمر به العقل والرأى، ومبدأ السفه منها لخفتها وطيشها، والإنسان تأمره نفسه فى السر بأمور ينهاها عنه العقل والدين فتكون نفسه اختانته وغلبته، وهذا يوجد كثيراً فى أمر الجماع والمال؛ ولهذا لا يؤتمن على ذلك أكثر الناس ويقصد بالائتمان من لا تدعوه نفسه إلى الخيانة فى ذلك. قال سعيد بن المُسَيَّب: لو ائتمنت على بيت مال لأديت الأمانة، ولو ائتمنت على امرأة سوداء لخفت ألا أؤدى الأمانة فيها وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه كيف اتفق. وهذا كله مما يبين أن النفس تخون أمانتها، وإن كان الرجل ابتداء لا يقصد الخيانة، فتحمله على الخيانة بغير أمره، وتغلبه على رأيه؛ ولهذا يلوم المرء نفسه على ذلك ويذمها، ويقول: هذه النفس الفاعلة الصانعة؛ فإنها هى التى اختانت.
ودل قوله: النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:(أبْغَضُ الرجال إلى اللّه الألَدُّ الخَصِمُ)، فهو يجادل عن نفسه بالباطل، وفيه لدد. أي: ميل واعوجاج عن الحق، وهذا على نوعين: أحدهما: أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس، والثانى: فيما بينه وبين ربه، بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسناً، وهي خائنة ظالمة، لها أهواء خفية قد كتمتها حتى لا يعرف بها الرجل حتى يرى وينظر، قال شداد بن أوس: إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوة الخفية، قال أبو داود: هى حب الرياسة. وهذا من شأن النفس، حتى إنه يوم القيامة يريد أن يدفع عن نفسه ويجادل الله بالباطل، قال تعالى: وقد جاءت الأحاديث بأن الإنسان يجحد أعماله يوم القيامة، حتى يشهد عليه سمعه وبصره وجوارحه، وقال تعالى: ومن عادة المنافقين المجادلة عن أنفسهم بالكذب والأيمان الفاجرة، وصفهم اللّه بذلك فى غير موضع. وفى قصة تبوك لما رجع النبى صلى الله عليه وسلم، وجاء المنافقون يعتذرون إليه، فجعل يقبل علانيتهم، ويَكِل سرائرهم إلى الله، فلما جاء كعب قال: والله يا رسول اللّه لو قعدت بين يدي ملك من ملوك الأرض لقدرت أن أخرج من سخطه؛ إنى أوتيت جدلاً، ولكن أخاف إن حدثتك حديث كـذب ترضى به عنى ليوشكن اللّه أن يسخطك علىّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد [أى: تغضب. انظر: المصباح المنير، مادة: وجد] علىّ فيه إنى لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر، واللّه مـا كنت أقوى قـط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق) يعني: والباقي يكذبون ثم إنه هجره مدة، ثم تاب اللّه عليه ببركة صدقه. فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز، بل إن أذنب سراً بينه و بين الله اعترف لربه بذنبه، وخضع له بقلبه، وسأله مغفرته وتاب إليه؛ فإنه غفور رحيم تواب، وإن كانت السيئة ظاهرة تاب ظاهرًا، وإن أظهر جميلاً وأبطن قبيحاً تاب فى الباطن من القبيح، فمن أساء سراً أحسن سراً، ومن أساء علانية أحسن علانية فإن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.
وَقَال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحه:
سورة المائدة أجمعُ سورة فى القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم، والأمر والنهي؛ ولهذا روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هي آخر القرآن نزولاً فأحِلّوا حلالها، وحرموا حرامها)؛ ولهذا افتتحت بقوله: وقد اشتهر فى التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا التبتل من الصحابة، مثل عثمان بن مظعون والذين اجتمعوا معه. وفى الصحيحين حديث أنس فى الأربعة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفْطِر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء،وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:(لكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سُنّتي فليس مني)، فيشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون قوله: وقوله: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} فيمن قال: أقوم لا أنام، وقال: أصوم لا أفطر؛ لأن الاعتداء مجاوزة الحد، فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة، كالعدوان فى الدعاء فى قوله: والعدوان هنا كالعدوان فى قوله: ثم ذكر بعد هذا،قوله: ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، فبين به ما حرمه؛ فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية، كما يقع فى تحريم الحلال طائفة من هؤلاء، يكونون فى حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية، ثم إذا وصلوا ـ بزعمهم ـ صاروا إباحية، وهاتان آفتان تقع فى المتعبدة والمتصوفة كثيراً، وقرن بينهما حكم الأيمان؛ فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا، كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة، وفيه رخصة فى كفارة الأيمان مطلقاً، خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء، من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها؛ فإن هذا التشديد مضاه للتحريم، فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد، وهذا كله رحمة من اللّه بنا دون غيرنا من الأمم التى حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم، ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا، فتدبر هذا فإنه نافع.
وقال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمه اللَّه: قوله: ثم قال: ومثله: ثم قال فى السورة: ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقاً؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا، وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة.
وَقَال شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه اللّه تَعالى
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ. منها قوله:
وَقَال شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه اللّه : قال تعالى: ومن المشهور ـ فى التفسير ـ أنها نزلت بسبب جماعة من الصحابة، كانوا قد عزموا على الترهب، وفى الصحيحين عن أنس: أن رجالا سألوا أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، عن عبادته فى السر، فَتَقَالُّوا ذلك، وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن سعد قال: رد النبى صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاخْتَصَيْنَا. وعن عكرمة أن علي بن أبى طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد وسالما ـ مولى أبي حذيفة ـ فى أصحاب لهم تبتلوا، فجلسوا فى البيوت. واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا الطيبات من الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية. وكذلك ذكر سائر المفسرين ما يشبه هذا المعنى. وقد ذم اللّه الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وذم الذين يتبعون الشهوات، والذين يريدون أن يميلوا ميلا عظيما، ويريدون ميل المؤمنين ميلا عظيما، وذم الذين اتبعوا ما أتْرِفُوا فيه، والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام. وأكثر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات شربة الخمر، كما قال تعالى: ثم نهى ـ سبحانه ـ عن تحريم ما أحل من الطيبات، وعن الاعتداء فى تناولها، وهو مجاوزة الحد، وقد فسر الاعتداء فى الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم، فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا. وقيل: لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس، فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدى فيها لابد أن يقع فى الحرام؛ لأجل الإسراف فى ذلك. والمقصود بالزهد: ترك ما يضر العبد فى الآخرة، وبالعبادة: فعل ما ينفع فى الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه فى دينه وينفعه فى آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف، وإن ظن ذلك زهداً نافعاً وعبادة نافعة. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والنَّخَعِي: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} أي: لا تَجُبُّوا [أى: لاتقطعوا. نهى عن الاختصاء. انظر: لسان العرب، مادة: جبب] أنفسكم. وقال عكرمة: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين؛ من ترك النساء، ودوام الصيام والقيام. وقال مقاتل: لا تحرموا الحلال، وعن الحسن لا تأتوا ما نهى الله عنه، وهذا ما أريد به لا تحرموا الحلال ولا تفعلوا الحرام، فيكون قد نهى عن النوعين، لكن سبب نزول الآية وسياقها يدل على قول الجمهور، وقد يقال: هذا مثل قوله: وكذلك الأحاديث الصحيحة، كقول أحدهم: لا أتزوج النساء وقول الآخر: لا آكل اللحم ـ كما في حديث أنس المتقدم ـ وهذا مما يدل على أن صوم الدهر مكروه، وكذلك مداومة قيام الليل.
وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الإنسان، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (أعدل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وفي رواية صحيحة: (أفضل) والأفضل هو الأعدل الأقوم . وهذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين؛ أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد. ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين. قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر فى دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه،وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور. فالقسم الأول: أهل الفجور، وهم المترفون المنعمون، أوقعهم فى الفجور ما هم فيه. والقسم الثانى: المترهبون، أوقعهم فى البدع غلوهم وتشديدهم، هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم، وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهى عنها أو يسرفون فى المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم اللّه والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيراً منهم. والذين يحرمون ما أحل اللّه من الطيبات ـ وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء ـ يقول أحدهم: للّه على ألا آكل طعاماً بالنهار أبداً، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التى ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة. ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على اللّه)، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه اللّه ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف فى تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد فى ذلك، ويقتصد فى العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق. فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التى غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها. وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد فى إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى: قال طاوس فى أمر النساء وقلة صبره عنهن ـ كما تقدم. فميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران، كما هو المذكور عنهم، فيبتلى بالميل إلى المردان، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلى بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة، ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة، إما فى سره وإما بينه وبين الأمرد، ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس. وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى الله، وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمراً أوجبه وحرمه هو على نفسه، فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فيصير بالمجاهدة في طاعة اللّه ورسوله. وفى حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس ـ مرفرعًا ـ:(من عَشِق فَعفَّ وكَتَم وصبر ثم مات فهو شهيد)، وأبو يحيى فى حديثه نظر؛ لكن المعنى الذى ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل، ومن الصبر أن يصبر عن شكوي ما به إلى غير الله عز وجل؛ فإن هذا هو الصبر الجميل. وأما الكتمان فيراد به شيئان: أحدهما: أن يكتم بَثَّه [أى: حزنه الشديد. انظر: القاموس، مادة: بثث] وألمه، فلا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين: فإن شكا ذلك إلى طبيب، يعرف طب الأديان، ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان، فهذا بمنزلة المستفتى، وهذا حسن. وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام. وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد،تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذى يتسخط. والثانى: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ [أى: عشقت وأحبّتْ. انظر: القاموس، مادة: تيم].والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو [أى: تثب وتعلو. انظر: القاموس، مادة: نزا] الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله فى نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّّ إليه، وكل ما فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر فى بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة. ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهباً إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب. وكذلك أصحاب المتاجر والأموال، إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك، وكذلك أهل الفرج والتنزه، إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه، وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بنى آدم، والإنسان ظلوم جهول. وكذلك ذِكْر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذَكٍّر به وتحرك محبته، فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛ فإذا تصورت جنساً تحرك إليها المحبوب. ولهذا نهي الله ـ تعالى ـ عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم:(من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر [فى المطبوعة: فاليستتر ـ وهو خطأ] بستر اللّه؛ فإنه من يُبَدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتاب الله)، وقال:(كل أمتى مُعَافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به)، فما دام الذنب مستوراً فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاماً، فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه. ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار ـ الغزل الرقيق ـ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر، فيكون حينئذ ممن قال الله فيه: والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في اللّه، وأما المبتدعون فى الزهد والعبادة، السالكون طريق الرهبان، فإنهم قد يزهدون فى النكاح، وفضول الطعام، والمال ونحو ذلك. وهذا محمود، لكن عامة هؤلاء لابد أن يقعوا فى ذنوب من هذا الجنس، كما نجد كثيراً منهم يبتلى بصحبة الأحداث، وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية. وحكايتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها فى كتاب، وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم، وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس، ولو اتبعوا السُّنَّة لاستراحوا من ذلك. قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان فى المنام: لي فيكم لطيفتان: السماع وصحبة الأحداث. قال أبو سعيد: قَلَّ من ينجو منها من أصحابنا، حتى لقوة محبة نفوسهم صار ذلك ممتزجاً بطريقهم إلى الله؛ فإن أحدهم يجد فى نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده مـن العبادة والزهادة مـا لا يجدها بدون ذلك، وعنده فـي نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن، فصاروا في شبهة وشهوة، لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم فى الأمور المحرمة، التى تفتنهم، حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة، كالذين قـال الله فيهم: وإذا وقعوا فى السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية، ومحبة تامة، وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم، فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم، ويدخلون في الدياثة لأغراضهم، فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به، ويسمونه حواراً، وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم، ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ، ويرتفع الحياء بين أم الصبى وأبيه وبين الفقراء. وإذا صَلُّوا صَلُّوا صلاة المنافقين، يقومون إليها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، فقد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومع هذا فهم قد يزهدون فى بعض الطيبات التى أحلها الله لهم، ويجتهدون فى عبادات وأذكار، لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز، مما تقدم ذكره، فتلك البدعة هي التى أوقعتهم فى اتباع الشهوات، وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم، ويتوب اللّه على من تاب. والسالكون للشريعة المحمدية، إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصاراً وأغلالا، كما كانت على من قبلنا من الرهبان؛ فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد، من أجل خروجه عن السنة. وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى اللّه ـ تعالى ـ إلا ببدعة. وكذلك أهل الفجور المترفين، قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب، ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك، وهذا يقع لبشر كثير من الناس. منهم من يقول:إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم ـ من الغيبة وغيرها ـ إلا بأكل الحشيشة. ويقول الآخر: إنّ أكْلَها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن، حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر، ومحركة العزم الساكن، وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم، وإنها لعمى الذهن، ويصير آكلها أبكم مجنوناً لا يَعِي ما يقول. وكذلك في هؤلاء من يقول:إن محبته لله ورغبته فى العبادة، وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد، ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم، وسماع الأصوات والنغمات، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك، وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات، ويفعلون المحرمات الكبار، كقطع الطريق، وقتل النفوس، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر، وتحملها على الصلاة والصوم والحج. وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه، منهم من يدعو إليه بالدف والرقص، ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات، ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان، ومنهم من يعمله بالدف والكف، ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع، وتسبيحات وقيام، وإنشاد أشعار، وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه. وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك، ويقولون: هؤلاء الذين تَوَّبْنَاهم وقد كانوا لا يصلون، ولا يحجون، ولا يصومون، بل كانوا يقطعون الطريق، ويقتلون النفس، ويزنون، فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع. وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا. وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة، ولكن يقولون: ما أمكننا إلا هذا، وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريماً، وفى ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل فى جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير. ويقولون: إن الإنسان يجد في نفسه نشاطاً وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه، وإن كان مكروهاً حراماً، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئاً، ولا يفعله. وهو أيضاً يمتنع عن المحرمات، إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروهاً، وإلا لم يمتنع، وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس، وجوابها مبنى على ثلاث مقامات: أحدها: أن المحرمات قسمان: أحدهما:ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة؛ كالشرك، والفواحش، والقول على اللّه بغير علم، والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة فى قوله تعالى: فهذه الأشياء محرمة فى جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً قط، ولا فى حال من الأحوال؛ ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفى التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير، حرمه فى حال دون حال، وليس تحريمه مطلقاً. وكذلك الخمر، يباح لدفع الغُصَّة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ، فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع؛ فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة فى شيء من ذلك. وكذلك الميسر، فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة فى مصلحة الجهاد. وقد قيل: إنه ليس منه، وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقاً إلا المحلل. ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر، وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى. والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء، فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة، وعلى الجهاد الذي فيه تعاون، وتتألف به القلوب على الجهاد، زالت هذه المفسدة. وكذلك بيع الغرر، هو من جنس الميسر، ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة. وكذلك الربا، حرم لما فيه من الظلم، وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله، ثم أبيح بيعه بجنسه خرصاً عند الحاجة، بخلاف غيرها من المحرمات؛ فإنها تحرم فى حال دون حال؛ ولهذا - والله أعلم - نفي التحريم عما سواها، وهو التحريم المطلق العام؛ فإن المنفي من جنس المثبت، فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها. المقام الثاني: أن يفرق بين ما يفعل فى الإنسان، ويأمر به ويبيحه، وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريماً منه لم ينه عنه، ولم يبحه أيضاً. ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه. بخلاف ما أمر اللّه به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها، كدعوة موسى لفرعون، ونوح لقومه، فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله، وحصل لقومه من الصبر والاستعانة باللّه ما كانت عاقبتهم به حميدة، وحصل ـ أيضاً ـ من تفريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة. وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين، وأهلك اللّه قومه أجمعين، فكان هلاكهم مصلحة. فالنهي عنه إذا زاد شره بالنهي، وكان النهي مصلحة راجحة كان حسناً، وأما إذا زاد شره وعظم وليس فى مقابلته خير يفوته لم يشرع، إلا أن يكون فى مقابلته مصلحة زائدة؛ فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع، مثل أن يكون الآمر لا صبر له، فيؤذى فيجزع جزعا شديداً يصير به مذنباً، وينتقص به إيمانه ودينه. فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك، بخلاف ما إذا صبر واتقى اللّه وجاهد، ولم يتعد حدود اللّه، بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة. وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة، كما قال تعالى: وأما الإنسان فى نفسه فلا يحل له أن يفعل، الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله؛ فإن هذا لا يكون إلا مفسدة، أو مفسدته راجحة على مصلحته،وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فلو علم أن فى ذلك مصلحة لم يحرمه، لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب، وتكون مصلحته أنه يتوب منه، ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة، وإنابة إلى اللّه ـ تعالى ـ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها، فإن الإنسان قد يحصل له [بعدم] الذنوب كبر وعجب وقسوة، فإذا وقع فى ذنب أذله ذلك وكسر قلبه، ولين قلبه بما يحصل له من التوبة. ولهذا قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة. وهذا هو الحكمة فى ابتلاء من ابتلى بالذنوب من الأنبياء والصالحين، وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة، فليس للإنسان أن يعتقد حـل مـا يعلم أن اللّه حرمه قطعاً، وليس له أن يفعله قطعاً، فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه، فإن تاب فصار بالتوبة خيراً مما كان قبله، فهذا من رحمة اللّه به حين تاب عليه، وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب، وليس له أن يقول: أنا أفعل ثم أتوب، ولا يبيح الشارع له ذلك، لأنه بمنزلة من يقول: أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى، أو آكل السم ثم أشرب التِّرْيَاق [هو دواء مركب . انظر: القاموس، مادة: ترق]. والشارع حكيم؛ فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة، وبالعفو عما سلف من ذنوبه، وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا فى أن يذنب ويتوب، ولو لم يفعل ذلك كان شراً منه لو لم يذنب ويتوب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته، لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له، وليس ما يفعله خلقاً ـ لعلمه وحكمته ـ يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه، ويأمروا به. وقصة الخِضْر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع اللّه وأمره، ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدراً كما يظنه بعض الناس، بل ما فعله الخضر هو مأمور به فى الشرع، بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرماً مطلقاً، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل [هو الذى يقتل الناس، ويعدو عليهم. انظر: القاموس، مادة: صؤل] لحفظ دين غيره أمر مشروع، وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع. فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد، فيحرمه من لم يعرف الحكمة التى لأجلها فعل، وهو مباح فى الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التى توجب حسنه وإباحته. وهذا لا يجىء فى الأنواع الأربعة؛ فإن الشرك والقول على الله بلا علم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والظلم، لا يكون فيها شىء من المصلحة، وقتل النفس، أبيح فى حال دون حال، فليس من الأربعة. كذلك إتلاف المال يباح فى حال دون حال، وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال: فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقاً فى كل حال، وفى كل شرع،فعلى العبد أن يعبد اللّه مخلصاً له الدين، ويدعوه مخلصاً له، لا يسقط هذا عنه بحال، ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وهم أهل (لا إله إلا الله). فهذا حق الله على كل عبد من عباده، كما فى الصحيحين من حديث معاذ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ، أتدرى ما حق الله على عباده؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا) الحديث. فلا ينجون من عذاب اللّه إلا من أخلص للّه دينه وعبادته، ودعاه مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره؛ كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالا من المشرك، فلابد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذى لا يقبل الله دينا غيره. ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة فى الدنيا امتحن فى الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب اللّه بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار. فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات ـ والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال، وهو العدل فى حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصا له الدين، ولا يظلم الناس شيئاً، وما هو محرم على كل أحد فى كل حال لا يباح منه شىء، وهو الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم ــ وبين ما سوى ذلك. قال تعالى: قوله:
|